لقد مات الصيف الجميل ليحيا الخريف الكئيب, وبين ذاك الموت وهذه الحياة قد وقف الزمن مشيرا بيمينه نحو غصن عرته الأرياح وقصفته العاصفة قائلا: هذا رمز أيامك أيها الإنسان, فتأمله جيدا: يقظة فرح فحزن فنزاع فنوم عميق.
أهذا رمز حياتنا؟ غصن نمقه نيسان بالأزهار, وكساه حزيران بالأوراق, وأثقله آب بالأثمار, ثم جاء تشرين فعراه بأرياحه. ثم مرت العاصفة فقفصته بعزمها, والتقته على الحضيض, لكي يبلى على مهل تحت طبقات الثلوج. أهذا هو رمز حياتنا أيها الزمن؟
أيبتلع الفضاء طهر الطفولية, ويمتص الاثير غبطة الشبيبة, ويغمر البحر قوة الكهولة ويبيد الظلام حكمة الشيخوخة
قد مات الصيف فرحلت الطيور إلى الجنوب, وعرت الأرياح اشجار الصفصاف والحور والتوت والتفاح, ووشح الضباب الحقول والمروج والأودية, ولوت العراصف أعناق الأعشاب والزهور, وغرقت الأمطار قامات الانصاب والرياحين, ولكن هناك هناك في سفح الجبل, شجرة السرو, ذات الاخضرار الابدي, تهاجمها الريح بعنف فتلويها ولكنها لا تقصفها. ويحاول المطر خلع ثوبها فيبلله ولا يثلمه, ويغمرها الضباب ليخفيها عن النواظر فيظل رأسها العالي مرفوعا نحو السماء وتجتمع حول جذعها أوراق الاشجار لتكفنها, فتبلى هناك وتحول الى عناصر تغذيها. هذه هي الشجرة التي تخرج من بطن الارض ولا تعود اليه. هذه هي الكلمة التي يلفظها الصيف فلا يستطيع اشتاء أن يجعلها سكينة, هذه هي رمز حياتي أيها الخريف . أيها الزمن.
جبران خليل جبران